فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب، فالصيد قبل الإحرام كان جائزًا فمُنع للإحرام، ثم أُمر به بعد الإحلال بقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الجواز، وقتل المشركين كان واجبًا قبل دخول الأشهر الحرم، فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} الآية، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم، وهو الوجوب.
وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وهذا أمر بعد الحظر، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا رده، واجبًا، وإن كان مستحبًا فمستحب، أو مباحًا فمباح.
ومن قال: إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة. ومن قال: إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول، والله أعلم، انتهى منه بلفظه.
وفي هذه المسالة أقوال أخر عقدها في (مراقي السعود) بقوله:
والأمر للوجوب بعد الحظل ** وبعد سؤل قد أتى للأصل

أو يقتضي إباحة للأغلب ** إذا تعلق بمثل السبب

إلا فذي المذهب والكثير ** له إلى إيجابه مصير

وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف، وغير التام المعروف. «بإلحاق الفرد بالأغلب» حجة ظنية، كما عقده في مراقي السعود في كتاب (الاستدلال) بقوله:
ومنه الاستقراء بالجزئي ** على ثبوت الحكم للكلى

فإن يعم غير ذي الشقاق ** فهو حجة بالاتفاق

وهو في البعض إلى الظن انتسب ** يسمى لحقوق الفرد بالذي غلب

فإذا عرفت ذلك، وعرفت أن الاستقراء الام في القرآن دل على ما اخترنا، واختاره ابن كثير، وهو قول الزركشي من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم، عرفت أن ذلك هو الحق، والعلم عند الله. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان}:

.قال الفخر:

قال القفال رحمه الله: هذا معطوف على قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} إلى قوله: {وَلاَ آمين البيت الحرام} يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام، فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به.
وليس للناس أن يعين بعضهم بعضًا على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه، لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضًا على ما فيه البر والتقوى، فهذا هو المقصود في الآية. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** (جرمت) فزارة بعدها أن تغضبا

فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبًا نحو كسبه، وجرمته ذنبًا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبًا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبًا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبًا، وعليه قراءة عبد الله لا يجرمنكم بضم الياء {شَنَانُ قَوْمٍ} بفتح النون؛ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما احتمالان: الأول: أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذًا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة كجولان ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو لويته ليانًا بمعنى مطلته، والثاني: أن يكون صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلًا كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو فإن كان مصدرًا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قومًا، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر كما في «البحر» وإن كان وصفًا فهو بمعنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافًا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم.
{أَن صَدُّوكُمْ} بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة للشنآن أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن (أن) شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة.
وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: {أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى {عَنِ المسجد الحرام} أي عن زيارته والطواط به للعمرة، وهذه كما قال شيخ الإسلام آية بينة في عموم آمّين للمشركين قطعًا، وجعلها البعض دليلًا على تخصيصه بهم {أَن تَعْتَدُواْ} أي عليهم، وحذف تعويلًا على الظهور، وإيماءًا إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يجرمنكم أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيًا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهى المخاطب على الحضور.
ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجًا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلًا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ.
وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى.
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} عطف على {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء.
وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أن تعتدوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقًا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلًا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضًا دخولًا أوليًا، وعلى العموم أيضًا حمل قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فيعم النهي كل ماهو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ} الآية.
نهى الله المسلمين في هذه الآية الكريمة أن يحملهم بغض الكفار لأجل أن صَدوهم عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية أن يعتدُوا على المشركين بما لا يحل لهم شرعًا.
كما روى ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن زيد بن أسلم، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمرَّ بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدَّنا أصحابُهم، فأنزل الله هذه الآية». اهـ بلفظه من ابن كثير.
ويدل لهذا قوله قبل هذا: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2]، وصرح بمثل هذه الآية في قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا} [المائدة: 8] الآية، وقد ذكر تعالى في هذه الآية أنهم صدوهم عن المسجد الحرام بالفعل على قراءة الجمهور {أن صدوكم} بفتح الهمزة، لأن معناها: لأجل أن صدوكم، ولم يبين هنا ححكمة هذا الصد، ولم يذكر أنهم صدوا معهم الهدي معكوفًا أن يبلغ محله، وذكر في سورة الفتح أنهم صدوا معهم الهدى، وأن الحكمة في ذلك المحافظة على المؤمنين والمؤمنات، الذين لم يتميزوا عن الكفار في ذلك الوقت، بقوله: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيما} [الفتح: 25]. وفي هذه الآية دليل صريح على أن الإنسان عليه أن يعامل من عصى الله فيه، بأن يطيع الله فيه.
وفي الحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وهذا دليل واضح على كمال دين الإسلام، وحسن ما يدعو إليه من مكارم الأخلاق، مبين أنه دين سماوي لا شك فيه.
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} معناه: لا يحملنكم شنآن قوم على أن تعتدوا، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أي حملتهم على أن يغضبوا.
وقال بعض العلماء: {وَلاَ يَجرِمَنَّكُمْ} أي لا يكسبنكم، وعليه فلا تقدير لحرف الجر في قوله: {أَنْ تَعْتَدُوا} أي لا يكسبنكم بغضهم الاعتداء عليهم.
وقرأ بعض السبعة {شنآن} بشكون النون، ومعنى الشنآن على القراءتين، أي بفتح النون، وبسكونها: البغض. مصدر «شنأه» إذا أبغضه.
وقيل على قراءة سكون النون يكون وصفًا كالغضبان، وعلى قراءة {إن صَدُّوكُمْ} بكسر الهمزة. فالمعنى إن وقع منهم صدهم لكم عن المسجد الحرام، فلا يحملنكم ذلك على أن تعتدوا عليهم بما لا يحل لكم.
وإبطال هذه القراءة- بأن الآية نزلت بعد صد المشركين النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية، وأنه لا وجه لاشتراط الصد بعد وقوعه- مردود من وجهين:
الأول منهما: أن قراءة {إن صَدُّوكُم} بصيغة الشرط قراءة سبعية متواترة لا يمكن ردها، وبها قرأ ابن كثير، وأبو عمرو من السبعة.
الثاني: أنه لا مانع مِن أن يكون معنَى هذه القراءة: إن صدوكم مرة أخرى على سبيل الفرض والتقدير، كما تدلُّ عليه صيغة {إن}، لأنها تدل على الشك في حصول الشرط، فلا يحملنكم تكرر الفعل السيئ على الاعتداء عليهم بما لا يحل لكم، والعلم عند الله تعالى. اهـ.